U3F1ZWV6ZTIzNTU5OTQyOTc0Njc4X0ZyZWUxNDg2MzY0OTI3Njg4Ng==

علم الإجرام وجغرافيا الجريمة


بحث عن علم الإجرام
علم الإجرام وجغرافيا الجريمة 

مقدمة : 

تعتبر الجريمة قديمة قدم الإنسان، وقد بدأ ظهورها منذ العصور القديمة. 

فقد عرفت البشرية أول جريمة سجلها التاريخ وهي جريمة الدم (أي جريمة القتل التي جاءت في القرآن الكريم في قوله تعالى: واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا باسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي واثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين) سورة المائدة من الآية (۲۷ إلى ۳۰). 

إذ قتل قابيل أخاه هابيل، بأن سولت له نفسه أي فكر ودبر، وهو ما يعرف في القوانين الوضعية بالعزم المسبق على تنفيذ الجريمة. واستمرت الجريمة في صورها البسيطة، أي إنها تتركز في فعل واحد أو عدة أفعال، ينجزها شخص واحد. 

إلا أن العصور الحديثة تميزت بظهور أنواع جديدة من الجرائم، وأساليب حديثة تمدد بتقويض خطط التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية؛ حيث جاءت الجرائم الإرهابية على رأس القائمة؛ لتزعزع الأمن وتعصف بجهود التنمية والبنيان(محب الدين، 1419ه، ص ۲۱۱).

لذا فإن هذا الفصل سيناقش البدايات الأولى لعلم الجريمة وعلاقته بعلم الجغرافيا، مما يساعد على الوصول إلى نتائج تشكل المفاهيم والفرضيات التي ترتكز عليها جغرافية الجريمة. 

علم الإجرام : 

يعتبر علم الجريمة Criminology علما وثيق الصلة بالعديد من العلوم الأخرى، التي تلتقي معا لمحاولة تفسير السلوك الإجرامي ومكافحته والحد منه، لاسيما أن علماء الإجرام لم يعودوا يبحثون عن السببية، بل إنهم يبحثون عن العوامل التي تسهم في إفراز الظاهرة الإجرامية وبعثها إلى الوجود، والتي تتصف بالتعقيد في طبيعتها. فما الجريمة إلا محصلة لتضافر العديد من الظروف الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والحضارية، والمكانية (المهيرات، ۲۰۰۱م، ص۱۹). 


وكان أول من طرح فكرة جغرافية الجريمة وناقشها نقاشا مستفيضا ( کوهن ,cohen 1941 ) في مقالته: "جغرافية الجرائم"، والتي نشرت في العدد (۲۱۷) من مجلة حوليات العلوم السياسية الأمريكية. أعقب ذلك فترة ركود في النشر عن الموضوع امتدت زهاء ثلاثة عقود.

ثم نشط الأمر من جديد، فنشأ مصطلح جغرافية الجريمة تحت مظلة علم الإجرام الكارتوجرافي Cartographic Criminology وذلك في أوروبا خلال القرن التاسع عشر الميلادي. ثم أدى تطور علم الإجرام الكارتوجرافي إلى ظهور مجموعة من الدراسات الإيكولوجية Ecological Studies of Crime التي تبلورت ضمن إطارها العام عدة اتجاهات متميزة في معالجة الجريمة مكانيا. ومن هذه الاتجاهات المتميزة: الاتجاه الذي يتعامل مع الجريمة في المحيط الحضري من مدخل مكان تحليلي.

ويعود ذلك إلى أن السلوك البشري في بعض جوانبه ما هو إلا نتاج أو محصلة للتفاعل بين الإنسان وبيئته، وأن الجريمة ماهي إلا وجه من وجوه العلاقة المكانية بين الأفراد وبين بيئتهم.

مع التوجه القوي من قبل الجغرافيين وغيرهم نحو الدراسات البيئية خلال عقد السبعينات وأوائل الثمانينات قويت شوكة المدخل الإيكولوجي في دراسة الجريمة؛ بسبب شموليته التي سمحت بأن يوفر للمهتمين بجغرافية الجريمة أطر تستوعب معظم الجوانب المكانية للجريمة، إن لم يكن كلها (الأصم، 1419هـ ، ص2) . 

وقد تطور البحث الجغرافي المرتبط بظاهرة الجريمة، من خلال الاهتمام بالظاهرة الإجرامية باعتبارها مشكلة من المشكلات الاجتماعية، تعبيرا عن دوره في محاولة تفهم المشكلات الاجتماعية، ومعالجتها من خلال إدراك العوامل الديناميكية للمشكلة وأبعادها، ودراسة أثر السمات أو الخصائص المكانية Spatial Qualities، وانعكاساتها على العمليات الاجتماعية من خلال دراسة السلوك الإنساني في البناء الحضري "المهيرات، ۲۰۰۱م، ص ۲۰).

وقد وضعت الجهود العلمية السابقة الأسس المنهجية لجغرافية الجريمة المعاصرة، التي انتهت إلى عدد من النتائج، تبلورت في صورة مفاهيم و فرضيات تمثل المحاور الأساس التي ترتكز عليها جغرافية الجريمة في مفهومها المعاصر. وهي تدور في الوقت الحاضر حول محورين أساسين: 

المحور الأول: التوزيع النمطي للجرائم على مستويات الإقليم . 

المحور الثاني: المقارنة والربط بين توزيعات الجريمة والمجرمين من جهة، وتباينات المكان من جهة أخرى. 

وذلك في ضوء مؤشرات اجتماعية واقتصادية وبيئية. ومن الملاحظ أن التوجهات الحديثة لجغرافية الجريمة بدأت تأخذ منحنى أكثر تخصصا محاولا الفكاك بقدر المستطاع تدريجيا من المسارات الاجتماعية والإيكولوجية، وتجاوز الوصف المكان إلى مزيد من الشرح والتحليل، والابتعاد عن الربط الميكانيكي المباشر البعيد عن التعليل. فالمهم لدى الجغرافي البحث عن سبب الجريمة والعنف في منطقة ما، وتعليل سبب السلوك الفردي.

والأكثر أهمية من ذلك سبب وجود تباين مكان على مستوى العنف. 

وتأسيسا على ما سبق؛ فقد اتجهت الدراسات الجغرافية إلى مزيد من البحث والتحليل للتفاوت المكاني للجريمة حيث توصلت إلى نتائج شكلت المفاهيم والفرضيات التي ارتكزت عليها جغرافية الجريمة (بدوي، 1434ه، ص 46). 

أهم المفاهيم والفرضيات التي ارتكزت عليها جغرافية الجريمة : 

أ- مفهوم التباين المكاني بين مناطق الدولة الواحدة في معدلات الجريمة: 

في القرن التاسع عشر الميلادي قدمت مجموعة دراسات في أوروبا عن الاختلافات المكانية بين مناطق البلد الواحد في معدلات الجريمة، أو عدد المجرمين. وكان منها في فرنسا: دراسات جوري,Guerry و کيتيليه ,Quetelet. وفي بريطانيا: وروسون ,Rawson و ميهيو ,Mayhew وغيرهم. ولكن الفضل يرجع إلى كل من شو ,Shaw ومكي ,Makay في بيان التباين المكاني بين مناطق المدينة الواحدة ( الوليعي، 1413هـ، ص 46).

فقد أشارت دراستهما إلى أن معدلات الجريمة ترتفع في الأجزاء القريبة من مركزها التجاري، بينما تأخذ هذه المعدلات في الانخفاض مع ازدياد المسافة بين أجزاء المدينة و مرکزها. ولكن هناك من الباحثين من يرى أن الجريمة بصفة عامة تتناسب عكسيا مع المسافة من مركز المدينة. إلا أن ذلك ليس مطردا في كل الأحوال؛ حيث يلاحظ أن جرائم معينة تكون أكثر انتشارا في مناطق بعيدة عن المركز.

ومن هؤلاء: شميد ,schwid 1960 في دراسة له عن مدينة سياتل. ويرى کارتر ,Carter أن الربط بين الجريمة والمنطقة المركزية من المدينة ربط صحيح باطراد؛ ذلك أنه علی الرغم من أن المنطقة المركزية غالبا ما ترتبط بارتفاع معدلات الجريمة، غير أنه توجد مؤثرات كثيرة و مناطق خارج المنطقة المركزية لابد من التعرف إليها، ودراسة الجريمة فيها؛ نظرا لأن ظاهرة الجريمة في المدن بالغة التعقيد، وليست أمرا سهلا، يمكن حصرها أو ربطها بجزء واحد من المدينة ( بدوي، 1434ه، ص 47).

ب- وجود علاقة وثيقة بين سكن الجناة وبين المواقع التي يرتكبون فيها جرائمهم: 

وهو ما يشار إليه بالرحلة إلى الجريمة، والتي غالبا ما تكون قصيرة. وإن كانت تتفاوت وفقا لأنواع الجرائم المرتكبة. 

وقد أشارت إلى ذلك دراسة هارنج ,Haring ۱۹۷۲م التي تركزت حول طول الرحلة من مكان سكن الجاني إلى المكان الذي ارتكب فيه جريمته أو جرائمه، وقد جرى تطبيقها على عدد من المدن الأمريكية. وكذلك دراسة بايل و آخرين ,pyle et al ۱۹۷4م عن الديناميكية الجغرافية (المكانية) للجريمة، من خلال عمل تطبيقي على مدينة (أكرون) بولاية أوهايو الأمريكية. 

ودراسة "هربرت وهايد، ,Herbert and Hyde ۱۹۸۰م الميدانية، حول الجريمة والبيئة في مدينة سوانزي. ومجموعة أخرى من الدراسات؛ كدراسة لومان ,Lowman ۱۹۸۲م عن الجريمة والعدالة الجنائية في البيئات الحضرية. 

ودراسة بولدوين وآخرين، ,Baldwin et al ۱۹۷۰م عن المجرمين في البيئات الحضرية. وعلى المستوى العربي: دراسة عبدالجليل، ۱۹۸۷ عن الأبعاد الجغرافية لظاهرة الجريمة في المدن الخليجية. ومن الدراسات المحلية: دراسة " زعزوع، 1407ه" عن الأنماط المكانية لجرائم السرقة في مدينة جدة، ودراسة" الوليعي، 1413هـ "عن السرقة في مدينة الرياض. 

ج- تركز الجريمة في حدود الأحياء : 

هذه الفرضية أو النظرية استمدت من دراسة برانتجهام و برانتنجهام عام 1975م عن مدينة تلهاسي بولاية فلوريدا. ومفادها: أن الجريمة تتركز في هوامش الأحياء من المدن ؛ نظرا لتوفر فرص ارتكابها؛ إذ تتميز هذه الأماكن بأنها أقل حماية من المناطق وسط المدينة، ومن ثم تؤمن فرص النجاح في مهام المجرمين، وتضمن سلامتهم ( الوليعي، 1413ه، ص ۰۲). 

وتأتي نتائج دراسة شو ومكي" وما تلاها من دراسات خلافا لنتائج دراسات أمريكية من أن الجرائم في المناطق الحضرية عموما تتركز وسط المدينة ثم تأخذ في كلما اتجهنا نحو الأطراف. لكن الاختلاف في النتائج لا يعني بالضرورة عدم ص حة إحدى الفرضيتين أو كلاهما وإنما السبب في ذلك يرجع إلى: 

أولا: الاختلاف في تركيب المدينة؛ فإن تركيب المدينة الأمريكية يختلف إلى حد ما عن تركيب المدينة البريطانية؛ حيث إن حدود الأحياء في المدن الأمريكية غالبا ما تقوم على فواصل طبيعية وبشرية؛ مثل: الأنهار، والسكك حديدية، أو طرق سريعة وخالية من أية حماية؛ بحيث يسهل الاختباء فيها، والتسلل منها إلى المساكن في أطراف المدينة، هذا على خلاف الحال في المدن البريطانية، التي تفصل بين أحيائها طرق مزدحمة و مراكز تجارية. 

ثانيا: نوعية الجريمة؛ فإن بعض الجرائم تقتضي طبيعتها أن تتركز في أطراف المدينة ( مثل جرائم سرقة الحيوانات)؛ حيث تتوفر أماكن التربية الحيوانات. ومن الدراسات التي تناولت هذه الفرضية: دراسة تمز ,Timms ۱۹۹۰م عن التوزيع الجغرافي للأحداث الجانحين؛ حيث أشارت إلى أن أغلبهم يقيم في مساكن عند أطراف المدينة (بدوي، 1434ه، ص ۶۹). ودراسة أعدها بولدوين و آخرون Baldwin , et al, ۱۹۷6م عن مجرمي المدن، وطبقت على مدينة شيلفيد في المملكة المتحدة، وتوصل إلى النتيجة ذاتها؛ أي تأكيد مفهوم تركز الجرائم في حواف الأحياء أو المدن ( الأصم، 1419ه، ص ۱۰). 

كما أشارت دراسة عبد الجليل عن المدن الخليجية إلى أن بعض المدن الخليجية (مثل: مدينة العين في الإمارات العربية المتحدة تفصل بين أحيائها فواصل، شجعت الأحداث الجانحين على ممارسة بعض السلوكيات الجانحة، والدخول إلى بعض الفيلات خلف المناطق الفضاء، كذلك فإن الكثافة السكانية المنحصرة في منطقة "الإقامة"، بتحعلهم ينتهزون وجود سكان هذه الفيلات في عطلاقم السنوية للقيام بجرائمهم. ومن الدراسات المحلية: دراسة الحواس عن نمذجة التوزيع المكان لقوة الشرطة والجرائم في مدينة الرياض (بدوي، 1424هـ ، ص49 ) .

د- التباين المكان للجرائم بين منطقة ومنطقة أخرى، أو بين ولاية وولاية أخرى داخل دولة واحدة: 

تتمثل هذه الفرضية في وجود اختلاف في معدلات الجريمة بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية، وقد حظيت دراسة الجريمة من هذا المنظور باهتمام الجغرافيين، ومن ذلك: دراسة هاريس ,Harries 1974م عن جغرافية الجريمة والعدالة؛ حيث أثبتت وجود اختلافات في معدلات الجريمة بين الولايات في الولايات المتحدة الأمريكية، وأكدت تفاوت الأمكنة من حيث حدوثها. 

ودراسة لوتير ,Lottier ۱۹۳۸م عن الجريمة في عدة ولايات أمريكية، وانتهت إلى وجود تباين مكاني لحدوثها بين ولاية وأخرى. (بدوي، 1434ه، ص ۰۰). كما أشار هربرت ,Herbert ۱۹۸6م إلى دراسة مبكرة توصلت إلى نتائج تؤكد على مفهوم التباين المكان للجرائم؛ هي: دراسة ميهيو ,Mayhew ۱۸6۲م للجريمة في وسط لندن، على الرغم من أن فكرة جغرافية الجريمة لم تكن قد تبلورت وقتها. وكان طوبيا ,Tobias ۱۹۷۲م قد قام بدراسة على المنطقة نفسها (وسط لندن) أكدت على المرئيات ذاتها الأصم، 1419هـ، ص ۹). 

وفي نطاق الدراسات العربية، أثبت "الأصم، ۱۹۸4م" من خلال دراسته عن الجريمة في السودان وجود تباين إقليمي حاد في توزيع الجرائم في السودان بصفة عامة، وبين المناطق الجنوبية والشمالية بصفة خاصة. كما أثبت السيد عثمان، ۱۹۹5م" في دراسة له عن الجريمة في ص عيد مصر تباينا واضحا في معدلات الجرائم بين محافظات مصر المختلفة؛ من حيث الكم والنوع. وفي المملكة العربية السعودية خلصت دراسة "الخريف، 1419ه" عن الجريمة في المدن السعودية إلى الكشف عن وجود تباين بين المدن السعودية في معدلات الجريمة (بدوي، 1424ه، ص 5۰).

هـ - مفهوم الضبط الاجتماعي (المحلي): 

تفيد فرضية الضبط الاجتماعي المحلي local social control إلى المناطق ذات التماسك الاجتماعي المنخفض low social cohesion ، وذات الإحساس القليل بأهمية الجماعة community، وأكثر عرضة للجريمة من غيرها. ولهذه الفرضية علاقة بنظريات علم الجريمة التقليدية؛ مثل: نظرية التفكك الاجتماعي التي قدمها بولدوین ,Boldwin و بوتومز , Bottoms عام ۱۹۷6م (الوليعي، 1419هـ، ص 55). ونظرية المكان الحصين defensible space التي قدمها نيومان , Newman عام ۱۹۷۲م حول مدى حصانة الأمكنة، من حيث احتمال تعرضها أو عدم تعرضها لاعتداءات المحرمين. ويرى نيومان أن حدا من الإحساس بخصوصية المكان (غالبا ما يكون مبنيا أو ذا سور) كفيل بتنشيط أو تفعيل الاستراتيجيات والخطط الحكومية والمجتمعية لمنع الجريمة الأصم، 1419ه، ص 4). 

ومن الدراسات التي أجرت اختبار لهذه الفرضية: ما أجراه ربیتو ,Reppetto ۱۹۷۰م في دراسته عن سرقات المنازل في مدينة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية. وفي دراسة "لي، وسيبريوسكي , Ley , and Cybriwsky ۱۹۷۹م عن السيارات المفككة في مدينة فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية ظهر أن للضبط الاجتماعي المحلي دورا كبيرا في تحديد مواقع هذه السيارات (الوليعي، 1419ه، ص 55).

و- مفهوم انتهاز الفرص : 

تأسست نظرية الفرصة على يد كل من: کلاورد و أوهلين ,Clinard and Ohlin ۱۹60م ومؤداها: أن فرص ارتكاب السلوك المنحرف غير متساو في المجتمع؛ مثلها في ذلك مثل فرص الانحراف في السلوك السوي. فالجريمة تحدث حيثما وأينما تتوفر فرص ارتكابها. 

وقد تم تطوير هذه النظرية وتوضيحها لتتناسب مع جغرافية الجريمة، فكما تختلف فرص ارتكاب الجريمة من شخص إلى شخص فإنه يمكن القول: بأن ذلك ينطبق أيضا على الأمكنة؛ فالأمكنة أيضا تختلف في قابليتها لارتكاب الجريمة بحسب ما يمكن أن توفر من فرص لارتكاب الجريمة.

ففي دراسة "هربرت وهايد ,Herbert and Hyde ۱۹۸6م فحصا خلالها المعلومات الخاصة بمستويات تعرض الأماكن للهجوم، بحيث إن بعض الأماكن تجذب المجرمين أكثر من غيرها. وتساءلا عما إذا كان ذلك يرجع للأماكن نفسها، أم لسلوك ساكنيها. وأوضحا أن الجريمة تتضمن أربعة أبعاد، هي: القانون، والمحرم، والهدف، والمكان. 

وأنه يجب أن تدرس الجريمة من خلال هذه الأبعاد، وعدم إهمال أي منها. كما ذهب كل من كوك,Cooke ۱۹86م وکوهن إلى أن الجريمة في مكان وزمان محددين يتطلب توفر شروط معينة؛ مثل: أهداف معينة، وأشخاص لديهم دوافع لارتكاب الجريمة، وغياب الحماية الكافية (شرطة، أو ضبط ذاتي أو اجتماعي).

وفي ضوء ذلك يمكن التنبؤ بحدوث الجريمة مثلا؛ کجرائم النشل، التي غالبا ما تحدث في الأماكن المزدحمة؛ حيث يقل انتباه الناس ومتابعتهم. ومثل جرائم السطو المسلح التي تحدث في الأماكن تجمعا، وجرائم سرقة السيارات التي تكون في الأماكن المهجورة والطرقات الخالية من المراقبة. 

وهكذا فإن الجريمة مرتبطة بتوفر الفرص المهيأة لارتكابها، وبغياب تلك الفرص يمكن التنبؤ بعدم وقوعها. ويذهب وار ,Warr ۱۹۸۸م إلى إمكان استخدام الفرص للتنبؤ بخصائص الجريمة؛ كالموقع، والتوقيت، والتكرار. ولذا فمن الممكن القول بأن الإسهامات البارزة لنظرية الفرصة تتمثل في أن الفرصة ذات بنية اجتماعية، الأمر الذي يعني أن السلوك الاجتماعي للأفراد يعرضهم ويعرض ممتلكاتهم لخطر الجريمة، وأن الأنشطة الحيوية في المجتمع بصورة عامة تضع قيودا على حجم الجرائم التي يتعرض لها المجتمع (بدوي، 1434هـ، ص 5۲). 

ز- مفهوم البعد النفسي والمكاني: 

يتناول هذا المفهوم صورة المدينة أو المنطقة الجغرافية في ذهن الفرد، وقد أطلق عليها الجغرافيون الصورة الذهنية. وتوضح هذه الخرائط الذهنية للسكان تصرا مبنيا على الخوف من الجريمة، وليس على وجود فعلي للجريمة. ويمكن النظر إلى هذا المفهوم من خلال ثلاثة جوانب: 

من جانب المجرم: 

نظرته للمكان الذي يمكن أن يرتكب فيه جريمته، وما الذي يجعله قابلا لأن يكون مسرحا محتملا لحدوث الجريمة فيه؟ فمن المعلوم أن المحرمين يتحركون بطريقة حذرة ويفضلون ارتكاب الجرائم التي تحتاج إلى جهد أقل ومنفعة عالية، وذات مخاطر قليلة. فهم لا يقروون تنفيذ مخططهم الإجرامي قبل أن يحددوا النقاط التالية: 

- ما مدى سهولة الدخول إلى المكان؟ 

- هل المكان ظاهر ؟ 

- ما احتمالات أن يرى؟ وعندما يراه الناس: هل لدى شاغلي المكان ردة فعل أو باستطاعتهم فعل شئ ضده؟ 

- هل يوجد طريق سريع ومباشر لترك المكان (الهرب فور الانتهاء من تنفيذ الجريمة؟ 
وأما من جانب أجهزة الشرطة فيتحدد بناء عليها: 

نشر أو إعادة نشر قوات الشرطة في مناطق الجريمة الحادة. 

ومن جانب المواطنين: 

يتحدد على ضوئها معرفة الأماكن الخطرة التي من الممكن أن تعرضهم للخطر عند ارتيادهم لهذه الأماكن (بدوي، 1434ه، ص 53). ويرتكز هذا المفهوم علی بحث أعده سکار ,Scarr ۱۹۷۲م عن أنماط السطو في الولايات المتحدة الأمريكية، ودراسة ليتكمان ,Letkeman ۱۹۷۳م عن الجريمة كمهنة أو حرفة للكسب، ودراسة كارتر وهل Carter ,and Hill ۱۹۸۰م عن حدود البيئة والسلوك البشري في ولاية أوكلاهما، وما الظروف المناسبة لارتكاب الجريمة؟ (الأصم، 1414ه، ص۱۰). 

ويعد هذا المفهوم أحد إسهامات جغرافية الجريمة، الذي يساعد على الوقاية من الجريمة، ويقلل من فرص حدوثها. ومن تطبيقات هذا المفهوم: دراسة العيسی، (۱4۱۸ه) عن أثر البيئة العمرانية على النواحي الأمنية في الأحياء السكنية بمدينة الرياض. وقد أثبت من خلالها أن هناك خوفا من تعرض المنازل للسرقة، وقد استدل عليها من خلال رفع الأسوار الخارجية للمنازل (بدوي، 1424هـ ، ص54 ) . 

تعليقات